أخبار ثقافية

أعمال لودفيغ دويتش الفنية.. بين الواقع التوثيقي والغموض الآسر

تعتبر القاهرة نقطة تحول كبرى في أعمال لودفيغ دويتش الفنية، خاصة في أواخر القرن التاسع عشر، فبعدما كان يركز في أبعاده الاستشراقية على التوثيق التاريخي، ألهمته القاهرة في أن يهتم ببعد آخر جعله في مصاف فناني العمران والهندسة، وذلك لأنه تحول من التوثيق إلى المشهد الاستشراقي، بحيث نقل القصور بنوع من الدقة في التفاصيل، وأصبح غزير الإنتاج، فنجده يعيد رسم نفس الموضوع بشكل مختلف، ولذا فإن الموسيقيين والحراس والمصلين وبائعي الرصيف يتكررون في لوحاته بشكل آخر وكأنه ينوع في الرؤية والضوء والتشكيل أيضاً، فيكفي أن يغير الإطار الذي وضع فيه الشخصية كي تجعله يبدو عالماً آخر، ولذا تم تصنيفه ضمن أهم الفنانين البارعين في الهندسة المعمارية.
فقد كان يجمع الكثير من المواد من رحلته للقاهرة كأن يأخذ عينات من البلاط والمشربية والأحجار إلى غيرها من المواد التي يحملها معه إلى الأستوديو الخاص به في مدينة باريس كي تكون مادة للاشتغال ضمن أعماله.وهذا جعل القاهرة المكان الأقوى لإلهامه، بحيث نقل الكثير من المعمار إلى لوحاته الفنية بشكل انعكس على أسلوبه الفني الدقيق، في رسم الكثير من العمارة الإسلامية والمهن الحرة واللباس العربي، بحيث تعتبر لوحة الكاتب التي رسمها في القاهرة بمثابة لوحة مميزة تعكس العديد من أنواع التصميم الشرقي والأثاث المنزلي والكتب المجلدة التي تحيط بالمكان الذي يجلس فيه الكاتب، ويصوره لودفيغ دويتش كمتعلم وفرد يوثق به.
ونتيجة لرحلته للقاهرة، برز تأثير الشرق على أسلوبه وأصبحت لوحته أكثر إشراقاً وضوءاً، والأكثر من ذلك أنه استطاع أن يبرز مهارته في نقل ملامح القاهرة كإثنوغرافي ضليع، استلهم من خلالها تأثير الطباعة والجرائد، فوثق لمحو الأمية وللكتاب والعلماء والإسلاميين وهي الموضوعة الجديدة التي جعلت من أسلوبه التوثيقي بصمة للتاريخ، إذ إنه يبرز حضارة الشرق وما أحدثه محمد علي باشا من إصدار لأول جريدة والتي يعكسها الفنان لودفيغ دويتش في إحدى لوحاته، كأهم الأحداث التي غيرت ملامح مصر.

– توثيق أنماط الحياة العربية:
لقد وثق لودفيغ دويتش العديد من مظاهر الحياة العربية بصرياً، فضمن أرشيف الاستشراق الفني نجد تلك الالتقاطات التي دونت حياة المصريين وعاداتهم، بل وأسماء أزقتهم أيضاً، وخصائص العمارة الإسلامية التي ميزت هندسات بيوتهم ومساجدهم وقصورهم إلى حدود أنه كان يرسم الأزقة في بعض الأحيان بأسمائها الحقيقية، مثل لوحة شارع الصناديقي التي نجد فيها الحياة العربية على بساطتها وكأنها عالم يتحرك. لكن، ومع أن شهرة لودفيغ دويتش جاءت بطيئة وعلى مراحل، فإن أعماله ما زالت تحظى بالاهتمام والبيع أيضاً، نظراً لرؤيته الواقعية التي تميز بها فنه؛ فهو مصور بارع للوجوه المصرية بشتى تلاوينها والأقرب ما تكون إلى الحقيقة. نلمس أيضاً أن لوحة «لاعبو الشطرنج» للودفيغ دويتش، والتي تتصدر أعماله الفنية هي نقل أمين لعادات المصريين، حتى إنها تمثل تجارب شخصية للفنان نفسه، ونقلاً لعاداته.
ورغم ما يقال عن الاستشراق بوصفه تمهيداً لإرادة سياسية في الهيمنة والاستعمار، وخاصة للذين تعلموا اللغة العربية كي يعرفوا خبايا حياة العرب والثقافة الإسلامية، فإن المستشرقين الفنانين غير المغرضين كانوا فعلاً مشدوهين بالحياة العربية وراغبين في توثيقها بحسن نية، للتاريخ ليس إلا !
وقد قدم لودفيغ دويتش بالفعل، مشاهد حية للعديد من مظاهر الحياة الإسلامية، سواء من خلال لوحاته عن المصلي مفرداً، أو المصلين جماعة، كما نجد ضمن أعماله الفقراء والدراويش الذين شكلوا طرفاً مشهدياً في اللوحة، ولذا فحين يتم توثيق الطقوس الدينية التي تتطلب الخشوع.. فإنه يقدم أيضاً المساجد وأشكالها الهندسية من الداخل، وحين يقوم بتوثيق لوحة المحمل في لوحة «سير المحمل في القاهرة» 1909، فليس ذلك تركيزاً منه على مظاهر الإسلام التي كان يهتم بها في اللوحة فحسب، وإنما هو تسجيل لمظاهر البهجة التي تراها في أعين المتابعين للمحمل، والذين يسيرون معه مسافات كحدث هام في حياة المصريين المسلمين، وطقساً من طقوسهم الدينية والدنيوية أيضاً!
وبالرغم من أن العديد من الباحثين انتقدوا الكثير من الفنانين المستشرقين في كونهم لم يصلوا إلى عمق الدين الإسلامي وخصوصيته، ناعتين إياهم بالسطحية الشديدة، والتركيز على الجانب الفولكلوري للإبداع بغاية الشهرة فقط، فإن العديد من الفنانين، ضداً على ذلك، استطاعوا أن يقدموا فنهم الراقي بموضوعية وبواقعيتهم الفائقة، مثل لودفيغ دويتش الذي جسدت ريشته الملامح النفسية والداخلية للإنسان العربي خاصة.
وإذا عدنا إلى العديد من المراجع التي تؤرخ لحياة لودفيغ دويتش نجد أن للفنان صفات خاصة في حياته الشخصية؛ فقد كان منعزلاً عن الناس، يقضي معظم أوقاته وحيداً، حتى إنه عاش حياته عَزب، إضافة إلى أنه لم يكن يحضر عرض أعماله الفنية! وهذه كلها أشياء تجعلنا نؤيد فكرة أن لكل فنان رواية أسرية تصنعه، من هنا، فإن حياة لودفيغ دويتش وتركيزه الخاص على القاهرة كفضاء عربي، يعود إلى طبيعته الخاصة كفنان عشق الشرق واستغنى بواسطته عن عوالم أخرى، ولذا استمرت أعمالهم الفنية إلى الآن كمناهج أساسية معتمدة في الأفلام، أو في دراسات سوسيولوجيا الشعوب وتوثيق لمراحل مهمة في تاريخ الشرق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى